خضير الزيدي:
منتصف أربعينيات القرن المنصرم وتحديدا سنة 1944 ولد الفنان اللبناني جبران طرزي في تلك المرحلة الحرجة والملتهبة، فقد ناضلت الدول العربية من أجل استقلالها، وأصرت على تأكيد هويتها، لاسيما في الفنون الإنسانية، وبما أن الفنان ينتمي لأسرة عريقة تمتهن صناعة وتصاميم الديوان الدمشقي والفنون التقليدية مثل، الرسوم النباتية النافرة والأرابسك فقد وجد نفسه أمام خيارات الفن والحرف القديمة ليتعلم الدرس الأول من والده ثم سرعان ما احتشدت مخيلته بالقديم من تلك الحرفة بينما يذهب خياله باتجاه تجديد خطاب الفن التجريدي، فيتخذ طريقا مكملا لتلك العائلة الفنية، التي امتدت لأكثر من مئة وستين عاما وهي تتعامل مع الفنون التقليدية ومنها الفنون التجريدية والأرابسك، مع الكثير من الأعمال الخشبية وتجارة التحف الشامية من مادة النحاس المرصع بالفضة والديوان الدمشقي، وقد تطور الأمر بحثا عن الحداثة الفنية عبر مساره الفني الذي ابتدأه سنة 1988، لينجز ما يقارب 300 عمل فني يصنف بالحداثة الفنية ذات الطابع التجريدي، وكل ذلك في فترة زمنية امتدت لخمسة عشر عاما من العمل الدؤوب والمتواصل، ما اضاف لتجربته سيلا من العطاء الفني الذي ميزه كفنان محب للتراث المشرقي العريق والمتواصل مع تيار الحداثة.
ثم أخذت مساحة التطور تكبر شيئا فشيئا وتتسع في تقديم أشكال وخامات مختلفة ترتبط بالموروث والذاكرة الثقافية العربية، فيقدم للمتلقي العربي منجزا جديدا يمزج بين التراث وروحيته وجوانب فعل الحداثة والتطلع إلى مواكبة متغيرات العصر، فتكون ممارسته التشكيلية وتنفيذه لكل من أعمال اللوحات والصناديق، أشبه بسلسلة إبداع متنوع ومخطط له، فنرى مجموعة من الصناديق الخشبية بطريقة رائعة ومميزة، تبدو أمام أعيننا بمثابة فضاء تعبيري يعمل على تحقيقه بعلاقة متكاملة، جاء كل هذا التطور بعد اكتسابه المهارة والدقة الذي فرضت عليه إنجاز المزيد من الاشتغالات الفنية التي تأخذ منه وقتا وجهدا كبيرين، فكانت واحدة من أهم أعماله التي ستبقى راسخة في أذهان من شاهدها وهي عمل (لوحة المرايا) التي أنجز تصميمها سنة 2010 والتي تم عرضها أمام الجمهور في قاعة صالح بركات في بيروت عام 2017، فما المتغير والجديد في ذلك العمل المتقن صناعة وتصميما وجمالا فنيا؟
الرؤية الفنية والتمثيل التعبيري
عرف عن جبران طرزي، أنه يكرس مفهوم الجمال الفني ضمن حدود معرفية مسبقة مع الاحتفاظ بطرائق أسلوبية يتفرد بها فقد وسّع العديد من تلك الأفكار عبر نطاق الاشتغال في اللوحات والصناديق الخشبية والمرايا، وبدت نظرته في التجريد تلفت انتباه المتابع لأعماله وهي مفارقة حقيقية تجعلنا نستوعب سلسلة أعماله وحمولاتها الوجدانية، وكيف يضاعف لمسات الجمال في بنائها فنيا، ولعل واحدة من تلك الاشتغالات التي تحققت على يدية ودعتنا لقراءتها نقديا هي (لوحة المرايا ) كونها في الأصل مجموعة من أجزاء تركبت في مستويات معينة وتبعا لطريقتها في التشكيل اتخذت عملا واحدا. وما يميزها كاشتغال أنها تتسم بالكفاءة والمهارة ودقة التركيب وتتصف هيئتها بأنها عمل غير تبسيطي منظم وفق تكامل جمالي تجسيدا لرؤيته الفكرية التي آمن بوجود فن مشرقي له خصائص معينة مع التزام ودعوة للخروج من نمطية الفن التقليدي، وفق طبيعة حرة لها حرية اختيار الموقف الجمالي والفني، ولا غرابة في ذلك فقد قرأنا له مقولته الشهيرة (الفن العالمي المعاصر هو في الأساس غربي اخترت أن أكشف في الأدب والرسم هويتنا الشرقية). هذا الطرح يكشف للمتلقي والمتابع أنه يحمل ثقل التراث الفني العربي في ذهنيته وهي بتصوره مسؤولية أخلاقية وفكرية يريد تأكيدها والمضي بفكرتها من خلال اشتغالاته المتعددة مع الفن، وبما أن قسما من الفنانين العرب، هرعوا إلى التراث لبيان الهوية الشرقية إلا أن تفرد جبران طرزي وانشغاله بإنجاز عشرات الأعمال قد وضعته في مصاف الفنانين العرب المتحمسين لهويتهم عبر الفن والأدب ولكن ما يميزه عن أقرانه أنه متحمس ومنشغل بهوس لاستثمار كل فرصة في تأكيد هويته المشرقية، ما حدا بعمل (لوحة المرايا) أن يكون ضمن الأساليب والمفاهيم التي تأتي بما يسمى (ما بعد الحداثة ومنه فن التركيب Art Assemblage ) فما المفارقة التي نراها في عمله الذي تتداخل فيه الصياغات ليبدو وحدة فنية متعالية القوام؟
لوحة المرايا والإحساس بالزمن
سميت لوحة المرايا بـ(الزمن الأفقي والعمودي) وهي إشارة مهمة وفلسفية وواقعية في الوقت ذاته وكأن الفنان يريد منا الانتباه لأدق تفاصيل الحياة والعمر والتقلبات التي تحيط بنا، وبما أن المرايا تعكس حقيقتنا ونحن نتأمل ملامحنا فهي بقدر ما تكون مشهدا متكافئا، فإنها استلهام لتصور ذهني ودعوة لنبذ الفن القديم، أو الركون إليه وإعادته كقالب متكرر فما الذي أوجده الفنان من تغيير بعمله هذا؟ حتى نجد إجابة واضحة يمكن لنا متابعة أفكاره من خلال لوحاته وصناديقه الفنية بانه معني بأمرين ثورة الفكر المجدد للعمل والفن والآداب وبيان أو إعلاء ثقافة التراث المشرقي.
ووفق تصور كهذا يلزمنا البحث في متابعة ثقافته الغربية ومنها، الفرنسية وولعه بالآداب، أدرك جبران طرزي معنى المقدس في الفن، وفق نظرة معاصرة فهو يريد استخراج شكل فني يشير إلى تكامل طبيعته حتى لو كان عصيا على الفهم من الوهلة الأولى، المهم عنده أن يؤسس فنه لقيم اجتماعية وفكرية وجمالية ليكون ذلك العمل الفني ذي طابع إنساني آخر المطاف وعليه جاءت (لوحة المرايا) لتقوم على التجدد والتنوع في الممارسة مع الاحتفاظ بقيمة إحيائها العاطفي، من خلال الألوان الترابية التي اتسمت بها، أو من خلال ما غلب عليها من الألوان الصريحة، وهو تعزيز لخصوصيتها ودلالاتها، وأيضا أعتقد، بل أجزم، أنه جزء من تصور ذهني ومعرفة طالما أراد لها الفنان التأكيد والحضور في طرح أفكاره، ومنها ما ذكره في إحدى رواياته غير المنشورة عبر مقولته (أريد إعادة فنانينا التائهين إلى الرعية والديار مسلحا بفرشاة، سأكون على لوحة القماش، أو أي مادة أخرى مدافعا مناضلا عن العروبة، المعاد اكتشافها من جديد، والشرقي المسيحي والثقافة المشرقية). هذه دعوة للاعتزاز بالهوية المشرقية وارتباط بجذر مكاني يعتز به، وأيضا نفهم منها أنه حازم ومثالي في طرح أفكاره وتسويقها عبر الفن.
بناء اللوحة فنيا والخبرة الأسلوبية
تتكون «لوحة المرايا» التي أنجزها الفنان طرزي من قطع لمرايا صغيرة بأحجام معينة حتى بلغ مجمل عمله هذا بقياس ثلاثة أمتار في ثلاثة أمتار ونصف المتر، وهو عمل تركيبي كل جزء منه تتضح فيه مهارة الفنان وابتكاره للعناصر المركبة واختزالها، أو توظيفها مما يكشف عن جانب تصميمي ينفذ بتجربة طرق تجريبية وحرفة عالية تبدو للوهلة الأولى وكأنها تعمل على تقديم تصور رمزي معين لكن الشكل بعمومه يذهب إلى (تعميم المطلق) وهو الفكرة والبحث الجاد ذاته الذي ميز فن جبران طرزي، بالعودة إلى قيم التجريد والارتكاز على منطق التحول من الخصائص الجزئية إلى بيان التمثيل الكلي وهي حسابات رياضية وذهنية يتم التواصل فيها من خلال التركيز والتفكير الطويل في إنتاج وبناء العمل الفني، فما يلفت إليه الأنظار أنها تتشكل من قطع متساوية في الطول والعرض، ولا تنفصل عن دلالاتها فكريا أو روحيا، أو تنعطف إلى إيقاع بصري مختلف عن مسارها التعبيري هذه اللوحة ترينا قدرة الفنان في اتباع نهج من الخيال الخصب، ينصب في توازن يلتقي بوحدة عضوية مصممة بسياق تقني محكوم بشكل بارز للعيان، وفي الوقت ذاته تتجه كعمل مركب كظهورها إلى نماذج للتحول اللاشكلي، فآليات تشظيها أو إعادة تركيبها تدعو إلى بيان دور العملية التصميمية التي جاءت الفكرة من أجلها. وهو الكشف عن ضرورة التعبير عن خلجات الإنسان روحيا ونفسيا، وهذا المنهج في تطبيق منجز جبران طرزي يربط الفنون بمجالات الوعي والثقافة والتراث مع الالتزام بالجدية والتفرد وتحقيق أعلى نسبة من القيم الفنية والجمالية لابتكار تلك الأساليب غير التقليدية في صناعة فن لا يظهر إلا على يدي هذا الفنان الملتزم بثقافته الشرقية والداعي لإحياء الحداثة والتواصل في تجسيد عمله الفني.
ما المميز في رؤيته وأعماله ؟
شكلت مفاهيم الهوية الفنية والحداثة ورؤية تجديد الفن الهندسي إشكالية كبيرة في وعي الفنان، والأمر بقدر ما يجعله أمامنا حاملا لواء التجديد الفني، إلا أن انطلاقته نحو العالمية جاءت من داخل محليته بمعنى أن الهوس في الانتماء للشرق جعله يقدم وعيا مغايرا لمن عاصره من الفنانين العرب، رغم أن الغالب منهم درسوا الفن في أكاديميات غربية عززت من وعيهم في الحداثة وخطاب التجديد، إلا أن ما يختلف فيه جبران طرزي، أنه اشتغل على قدر من الخصوصية في ممارسته الفنية والجمالية لما تنطوي عليه من حملها لمرجعيات شرقية تستلهم لقاء (الأصول وتفاوت دلالاتها مع منظور التجديد في الفن)، وعليه ستكون هوية عمله في ظل ذلك المشروع الخاص قابلة للقراءة وإثارة النقاش المتواصل لأنها أسست لفن عربي يعيش التحولات الزمنية عبر حضورها المعاصر وكل هذا الوعي والثقافة التي يمتلكها جعلت من فنه مصدر جذب يحمل مبدأ التأثير والإثارة معا.