بيوت الشعر في العالم العربي تجعل من القصيدة سلوكا مدينيا…

حكيم مرزوقي:

انتشرت بيوت الشعر في العالم العربي من موريتانيا والمغرب إلى تونس ومصر والسودان وغيرها من المدن العربية التي باتت بيوت الشعر فيها مؤسسات شعرية تحاول جمع الشعراء، فيما تبقى دائما تحت طائلة المساءلة حول أدوراها وأهميتها في الساحة الأدبية والثقافية.

لأمر مبهج ويدعو للتفاؤل أن يُحتفى بالشعر العربي عبر طرق غير تقليدية، ومن طرف شخصيات مؤثرة وفاعلة في الحياة الثقافية حين نقرأ عن انطلاق فعاليات الدورة السادسة من مهرجان القيروان للشعر العربي الذي ينظمه بيت الشعر في القيروان من الرابع والعشرين إلى السادس والعشرين من ديسمبر الجاري.

أول مظاهر كسر النمطية في مثل هذه المهرجانات الشعرية هي أن تجذب إليها جمهورا غير نمطي من الجيل الجديد، ومن حساسيات ومشارب مختلفة في العالم العربي مشرقا ومغربا، بالإضافة إلى تنوع فعالياتها بين القراءات والندوات والأمسيات التي تصالح الشعر مع الموسيقى بعد شبه قطيعة بين الفنين اللذين تباعدا منذ أفول ما يعرف بالأغنية الملتزمة التي ركزت على الشأن السياسي وحده وتراجعها، وانحازت إلى البدائية والتقشف الإنتاجي ضمن خطاب مباشراتي يتوجه إلى روح الحماسة وحدها مستبعدا الذائقة الفنية الرصينة، والبعيدة عن الشعارات والصراخات.

أما الذي لا يمكن إغفاله في مثل هذه اللقاءات فهو احتضانه للمواهب الشابة التي من دونها لا يمكن الحديث عن التجديد، بالإضافة إلى المكافآت المجزية التي من شأنها أن تكون محفزا جوهريا لجودة المنتوج الشعري، علما أن القصيدة العربية لم تتطور إلا في أزمنة الرعاية من طرف شخصيات تجزي العطاء، مما يضمن عيشا كريما للشعراء الموهوبين.

كل هذه التظاهرات التي لمت شمل الشعراء، سهلت عملها ظاهرة بدأت تسود في العالم العربي، انطلاقا من الثمانينات، وهي ظهور ما يعرف بـ”بيت الشعر” في أكثر من مدينة عربية، وهي فضاءات يجتمع فيها الشعراء لإلقاء قصائدهم والتحاور فيها والتعريف بإنتاجاتهم، واستضافة بعضهم بعضا فيما يشبه النوادي التي ترعاها وزارات الثقافة وتوفر لها الدعم غير المشروط، وبعيدا عن مقص الرقيب.

ظاهرة عربية

ظاهرة عربية

كما قال عبدالله بن محمد العويس، رئيس دائرة الثقافة بالشارقة، في معرض حديثه عن مهرجان القيروان للشعر العربي، فإن  بيوت الشعر في العالم العربي “تكرس فكرة ضرورة الاهتمام بالهوية الثقافية التي يعتبر الشعر أحد أبرز تجلياتها، كما تشكل فضاء للمبدعين العرب لتبادل تجاربهم وتقديم أفضل إبداعاتهم”.

وتجدر الإشارة إلى أن دائرة الثقافة في الشارقة، كانت قد نظمت في اليوم العالمي للشعر في شهر مارس الماضي، اجتماعاً مع بيوت الشعر في العالم العربي، عبر مواقع التواصل الإلكتروني، لمناقشة المسؤولين عن استعدادات البيوت لهذه الاحتفالية.

مع بيوت الشعر بدأ يتغير مفهوم الشعر ويتبلور في اتجاه نشاط فرجوي ذي مواصفات ركحية ويأخذ معه فنونا أدائية أخرى ليتحرّر

وتحدث في هذا اللقاء الإلكتروني مشرفون ومدراء لبيوت الشعر العربية مثل جميلة الماجري من القيروان، مخلص الصغير من تطوان، عبدالله السيد من نواكشوط، عمر الصديق من الخرطوم، عبدالحق ميغراني من مراكش، حسين القباجي من الأقصر، ومحمد البريكي من الشارقة، وآخرون.. وهو ما يؤكد أن بيوت الشعر لم تعد استثناء ثقافيا يخص مدينة لوحدها بل صار واقعا مؤسساتيا أملته الحاجة إلى لم شمل الشعراء كي لا يبقوا متفرقين ومنبوذين كالصعاليك. وحتى هذه الفئة المرفوضة اجتماعيا عصر ما قبل الإسلام، كانت تلتقي فيما يشبه النادي يؤمه عروة بن الورد المكنى بعروة الصعاليك.

وعلى ذكر هذه التسمية “صعاليك” التي اقترنت بغالبية من الشعراء المغردين خارج السرب والرافضين للأنساق السائدة، فإن الشاعر التونسي الراحل محمد الصغير أولاد أحمد (1955 ـ 2016)، والذي يحلو للكثير تلقيبه بـ”صعلوك الشعر التونسي” كان من أول المبادرين إلى تأسيس “بيت للشعر” في مدينة تونس والعالم العربي. وكان له ما يريد، إذ مكنته وزارة الثقافة التونسية من حيازة مبنى جميل وعريق في المدينة العتيقة ليتولى فيه تأسيس بيت الشّعر وإدارته من سنة 1993 إلى سنة 1997.

يهتمّ بيت الشعر في تونس بتنظيم الأمسيات الشعرية والتظاهرات الفنية، ويستضيف أهمّ الشعراء والفنانين من داخل تونس وخارجها. ويعمل منذ تأسيسه ـ بحسب القيمين عليه ـ على أن يكون ذاكرة حيّة للشعر التونسي والعربي والإنساني. ويسعى من خلال أنشطته للتعريف بالشعر التونسي والمساهمة في نشره وتوزيعه وترجمته إلى مختلف اللّغات ودفع حركة النقد والمساهمة في تطويرها. ويسعى لرفع الحدود بين الشعر ومختلف التعبيرات الفنيّة الأخرى. كما يهدف إلى استقطاب الشباب المهتم بالكتابة والفنون وتشجيعه على المبادرة وإشراكه في صياغة البرامج وإنجازها.

نشاط فرجوي

النموذج التونسي الذي ما تنفك تنسج على منواله تجارب عربية كثيرة في مدن متعددة

هذا النموذج التونسي الذي ما تنفك تنسج على منواله تجارب عربية كثيرة في مدن متعددة، وحتى في بلاد الهجرة واللجوء كما هو الحال مع “بيت القصيد السوري” الذي ما يزال ينظم الأمسيات عبر منصات التواصل الاجتماعي، هذا النموذج كرس مفهوم الشعر في الحواضر والمدن بعد أن ولد ريفيا ومرتبطا بالبوادي كما في نشأته الأولى.

الفضل الآخر لبيوت الشعر هذه أنها كسرت عزلة القصيدة وجعلتها تخرج من دائرتها المغلقة لتنفتح على فنون أخرى كالموسيقى والغناء، وحتى المسرح وبعض الفنون الأدائية، كما أنها جعلت الشعراء يلتقون تحت سقف واحد بعد أن كانوا متفرقين ولا يتعارفون إلا عبر صفحات نادرة في الجرائد والمجلات التي قلما تهتم بالشعر في ظل غياب المنابر المتخصصة.

التعريف بالمنشورات والدواوين الشعرية وظيفة تكفلت بها بيوت الشعر أيضا، بعد أن كانت في عهدة وسائل إعلام لا تهتم إلا بالمشاهير والأعلام.

صارت هذه الفضاءات واقعا ملموسا وضرورة فرضت نفسها في المشهد الثقافي الرسمي لبلدان ومدن عربية كثيرة مثل الشارقة ومدينتي القيروان وتونس التي التحق فيها بيت الشعر بمدينة الثقافة، وكذلك توسّعت بيوت الشعر العربية لتشمل نشاطات ذات طبيعة تنموية كبيت الشعر في نواكشوط الذي احتضن أخيرا ندوة أدبية تحت عنوان “حضور المرأة في الثقافة الموريتانية“، حاضرت فيها أستاذة التاريخ في كل من جامعة نواكشوط والمدرسة العليا للتعليم والمعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية، مريم باب الدين، وقدمتها أم الفضل أحمد أبوالمعالي.

مع بيوت الشعر بدأ يتغير مفهوم الشعر ويتبلور في اتجاه نشاط فرجوي ذي مواصفات ركحية ويأخذ معه فنونا أدائية أخرى ليتحرر من مجرد المثول على صفحات مقروءة ونادرة أو أمسيات متفرقة يحضرها عدد قليل من الناس ليصبح مزارا ذا عنوان دائم لا يضيعه أحد.

Share
  • Link copied
المقال التالي