منير الحايك:
«دعونا نسجل الذرات كما تسقط على العقل بالترتيب الذي تسقط به، دعونا نتتبع النمط، مهما بدا غير مترابط وغير متماسك في المظهر، الذي يتركه كل مشهد أو حادث على الوعي. دعونا لا نفترض أن الحياة توجد بشكل أكثر اكتمالاً في ما يُعتقد عموما أنه كبير مقارنة بما يُعتقد عموما أنه صغير»، تقول فيرجينا وولف في مقالتها الشهيرة «الخيال الحديث»، وقبلها قال المنظّر الأول لتيّار الوعي وليام جيمس «الوعي.. لا يظهر لنفسه مقطّعاً إلى أجزاء. كلمات مثل «سلسلة» أو «قطار» لا تصفه بدقة كما يظهر في المقام الأول، إنه ليس شيئا مفصّلاً، بل يتدفق. «نهر» أو «تيار» هما الاستعارتان اللتان تصفانه بشكل طبيعي. عند الحديث عنه لاحقًا، دعونا نسميه تيار الفكر، أو الوعي، أو الحياة الذاتية.»
وقد اعتمد الكثيرون تقنية «التداعي الحرّ» بوصفها واحدة من تقنيات الكتابة الحديثة للرواية، ونجحوا وأضافوا إلى نصوصهم وإلى التجربة الروائية، ولأنّ «مي» في رواية «غيبة مي» دار الآداب 2025 للروائية اللبنانية نجوى بركات، امرأة ثمانينية، عانت وتعاني من أزمات نفسية، وأمراض في مراحل من حياتها، «غابت» معها كثيرا، ولأنّ بركات تدرك ما تفعل وتحسب خطواتها بدقة، اختارت لها هذه التقنية لنسمع منها ما تريد. قلت إن كثيرين نجحوا في استخدام التقنية، ولكن بعضهم أيضا استخدمها لأسباب لم تكن موفَّقة، ولم تكن الشخصية لتستعيد كل ما استعادته في لحظات أو دقائق في الموقف الذي وضعها المؤلف فيه، فهل نجحت الروائية في اختيار هذه التقنية!
أقول إنها اعتمدتها في جزء الرواية الأول، والأطول، «مي»، حيث نسمع صوت المرأة التي تسرد لنا تفاصيل يومها، في بيتها بين جدران غرفه، وعلى شرفته ومن خلال أثاثه، تبدأ الرواية مع «صوت» تسمعه مي يربكها ويخيفها، ومعه تبدأ الحكاية التي لا يمكن وصفها بالعميقة والرائعة والموفَّقة فقط، بل أكثر من ذلك. نسمع من مي قصصها الكثيرة ويومياتها، وعلاقتها بالناطور يوسف السوري والقطة، التي لم تعطها اسما، وللقطة رمزيتها المتعددة التأويلات في الرواية، ولكن مي، عندما تبدأ بالغياب مجدّدا، أو تستعد له في نهاية الرواية، تطلق عليها اسم «فْريدة»، وليس أبلغ وأعمق من هذا الاسم ورمزيته وسيرة صاحبته، بعدما نقرأ جزء «هي» من الرواية.
مي الثمانينية لها توأمان، وكان لها زوج محبّ مخلص، تخبرنا إنها غابت عن عائلتها وعن ولديها مدة سبع سنوات، لا تعرف كيف مضت وكيف خسرتها من حياتها، يوهمنا النص منذ الحديث عن هذه الغيبة، إنها بسبب «كوما» من حادث ما، وهنا براعة بركات، بأسلوبها السلس العذب، ولغتها التي تشدّ المتلقي ببساطة وقوة، حيث أخذت تبطئ الأحداث وتسرعها حتى لا يمل المتلقي من تقنية التداعي الحر، وفي حين يبدأ بالشعور بأنّ الإطالة قد بدأت تحصل، وأنّه بات يجب أن نعرف بعض الحقائق، تنتقل الرواية إلى جزء «هي» لتخبره بتلك الحقائق، فيكتشف أمراً لا يجده في كل رواية يقرأها، أنّ نجوى بركات كانت قارئة لروايتها وناقدة لها والمختبرة الأولى لما سيحلّ بالمتلقي، فكيف قامت بذلك!
جزء «هي» وجزء «يوسف» تتكشّف معهما الحقائق، فهي «هي» بالفعل، عادت بنا الرواية إلى المرحلة التي معها بدأت مي تغيب، في غيبتها الأولى بعد الصدمة الأولى من الحبيب الأول، حيث كانت الأحلام والطموحات وتحدي السائد والمجتمع، مع الممثلة الصاعدة «مي» في مدينتها الأحب بيروت، وهنا أذكر أن الشقة حيث تعيش هي في بيروت، التي عاشت فيها ومعها كلّ أزمات المدينة، وآخرها انفجارها. أخبرتنا عن تلك المرحلة لسببين، الأول لأنها تريد أن تعطينا إجابات لفكرة الغيبة، ولأنها تريد أن تمهّد للنهاية، وهنا السبب الثاني، مي التي ستغيب مجدّدا، ولكن هذه المرة عن وحدتها وعن شقتها فقط، ستنهي الرواية بمشهد مسرحي، حيث علقت ذاكرتها ويصبح الجميع غرباء من حولها حتى يوسف!
رواية عن الشيخوخة والزهايمر وغيرها من الأمراض النفسية، عن الصدمة وما بعدها، وعن التعلق المرضيّ وما ينتج عنه من تشوّهات في النفس البشرية، وعن صراع البقاء بعد كل ذلك، وهي أيضا رواية عن الحبّ والوفاء، حبّ الزوج والأبناء وإن غابوا، ووفاء الناطور والخادمة، وحرص الطبيب المؤتمن، كلها تظهر لدى شخصيات مرّت سريعا، ما عدا يوسف، ولكن مرورها كان لتؤكّد الرواية على ضرورة الاحتضان في مواجهة الأزمات النفسية، ولتؤكّد أننا، أبناء هذه البلد، وما أوصلنا إليه دائما، وهو الذي ينتقل من حرب إلى أزمة إلى انهيار إلى انفجار… بين سنة وأخرى وكأنه يرقص على بكائنا وضياعنا، فكان لا بدّ للمثقّف والمبدع، كما فعلت نجوى بركات، أن تبثّ الروح في نصها لمثل هذه الحالات من التفاؤل والحلم بالحياة الحقيقية، ولعل دفاع المحامية عن يوسف عندما اتّهم بالسرقة، وكان الإيهام مسيطرا على أن الرواية ستسير في منحى مختلف، هو أقوى دليل على أن بركات تريد الدفاع عن المحبة والجمال والخير في بلادنا.
مي غابت عدة مرات، غابت مرة في صباها، وغابت وهي زوجة وأم، وستغيب وهي عجوز ثمانينية، ولكن الأعمق في الرواية، بعيدا عن التقنيات واللغة والألعاب الروائية وغيرها، أن المتلقي يسمع صوت الإنسان الذي بات يظن أنه، ولأنه في هذه السنّ المتقدمة، ما عاد يحلم أو يطمح أو يهتمّ أو يفكّر أو ينشغل بأمور نظنها لمن هم أصغر سنّا، «مي» المرأة ظلّت «امرأة» مع أفكارها ومشاعرها وجسدها، حتى آخر لحظات حياتها، في وعيها وفي غيبته، وظلّت تأخذنا معها لنفكّر بكل من هم في مثل سنها، ولعلّ الحال الأبرز الذي أثّر بي شخصيًّا، استحضار صورة والدتي بالفعل، فكأنّ الرواية كانت درسا وتوجيها لكل من يعتقد أنّ المتقدم في السنّ، ليس سوى رقم زائد ينتظر موته.
من وجهة نظري إن جزء الرواية الأول هو الأعمق والأكثر تأثيرا والذي يعطي الرواية قيمتها من حيث الجدّة والبراعة، وإن الإجابات التي فهمناها في الجزءين الأخيرين يأتيان في المرتبة الثانية، ليس من حيث اللغة والسردية والفنية، بل من حيث التوقّع. أما المقطع الذي تمنّيت لو أنّ الرواية انتهت عنده، وكانت قد أظهرت مي في لباس الممثلة وما قالته في المقطع الأخير في موضِع سابق من الرواية، وهو عندما يسأل يوسف الطبيب عن التوأمين وهل سيزوران أمهما، حيث يكون الإيهام في أوجه، ولم نعرف بعد إن كانت حيّة أم لا، عندما أجابه «لا فكرة لديّ»، فالزيارة وحيرة الطبيب كانت ستأخذ المتلقي لنهاية مفتوحة يشارك فيها النصّ روعته.
أنهي بأنّ الأدب ومن يكتبه يحتاج الموهبة والقدرة على الخلق وعلى التجديد وعلى التجريب، ولكنه أيضا يحتاج إلى براعة الاختيارات الصحيحة، في الموضوعات والتقنيات واللغة والشخصيات وكل العناصر، وهذا ما تبرع فيه نجوى بركات مع كل نصّ تقدمه، وأعيد مع فرجينا وولف، إنها في هذه الرواية سجّلت الذرات كما سقطت على العقل بترتيبها الخاص، كان نمطها مع «مي» نمطا خاصّا لا يتكرر مهما بدا غير مترابط وغير متماسك في المظهر، فالحياة ظهرت أكثر اكتمالا في النقصان الذي ظهرت فيه مي وغيباتها.
كاتب لبناني