حميد عقبي:
براين كارلسون فنان أمريكي وهب نفسه ووقته وفنه لنصرة الضعفاء وضحايا العنف والحروب والصراعات في فلسطين واليمن وبلدان افريقية، كما أنه ناشط بيئي ومناهض للتمييز والعنصرية، وقد رسم عشرات الوجوه لشخصيات تناضل من أجل المساواة وتدافع عن حقوقها في أمريكا والعالم. عندما يتحدث، يقول: «أخجل أن أكون من بلد يدّعي الديمقراطية، لكنه يبيع السلاح ووسائل التدمير لكل حرب، مهما كان موقعها وأسبابها.»
منذ زمن طويل، وقبل بداية أحداث غزة، يكرّس براين نفسه لرسم ما يحدث في فلسطين. يتابع الأخبار، يسير في المظاهرات، يكتب بياناته الخاصة، ويتواصل مع أشخاص طيبين، حسب تعبيره. وفي مراسلاته معي، يقول:
«إنني أتمتع بحسن الحظ في مقابلة أشخاص غير عاديين على مرّ السنين، ليس بالمعنى السطحي لـ»المشاهير والأثرياء»، بالطبع لا، ولكن الأشخاص الأكثر ثراء ونجومية بالنسبة لي هم الذين يكرسون معارفهم ومهاراتهم وطاقاتهم ووقتهم وممتلكاتهم لمساعدة زملائهم من البشر.» يبدي براين تواضعا حقيقيا عندما يناقشك، ولا يردّد عبارة «خمسون سنة كفنان تشكيلي محترف»، بل يضع كل إنتاجه تحت تصرف أبسط إنسان، ويتقبل أي ملاحظة بصدر رحب.
هذه المادة أخصصها للوحته المهمة «العودة الكبرى (غزة)»، لكن هذه اللوحة، بمفرداتها، تعني العودة الكبرى لكل المهجرين حول العالم، بسبب الحروب والصراعات العنيفة.. وهي بمثابة نبوءة تمنح الحلم والأمل في عالم يتصدّع أكثر ويزداد خرابه. قبل الولوج في تحليل اللوحة، أود إضاءة جانب من فلسفة براين كارلسون، أنا في تواصل معه منذ أكثر من سبع سنوات، وأعتبره معلّمي وأحد الأشخاص المهمين في نضوج تجربتي الفنية التشكيلية. هو يرى أن هذه الأرض مُنحت للبشر جميعا، وبوسع البشر كلهم الحياة فيها مهما كثر عددهم. الحياة الكريمة حق لكل إنسان، مهما كان لونه أو جنسه أو معتقده، وما يحدث من ظلم وتمييز وقتل، بصور وأسلحة مدمّرة أو ناعمة، أصبح حالة عامة في أغلب البلدان. ولم تعد الأنظمة والحكومات تحمي شعوبها بعدالة ومساواة؛ دوما هناك تمييز وأفضلية لفئات قليلة على حساب الأغلبية، في الشرق والغرب. تلك، حسب فلسفته، سِمة النظام العالمي الجديد، الذي لا يكترث بالحقوق والكرامة. نفهم من فلسفته أن التهجير يحدث في كل مكان، حتى في الدول التي تدّعي أنها تدافع عن حقوق الإنسان وتدعم التنوير والسلام، ومن هنا تأتي أهمية تأملاتنا المتواضعة لهذا العمل الفني العالمي.
تأمل نقدي: «العودة الكبرى» ـ شجرة الزيتون كأيقونة للهوية والصمود
1ـ شجرة الزيتون كجسد الأرض والهوية:
عندما نتأمل اللوحة، نرى شجرة زيتون عملاقة تهيمن على مركزها، لكنها هنا أكبر من كونها شجرة ذات دلالة فلكلورية أو دينية؛ إنها كيان كامل يتجسّد فيه الوطن والحياة.
الجذور تتغلغل في أرض محترقة، والجذع محفور بصورة تشبه خريطة فلسطين، وكأن هذا البلد لم يعد فقط مكانا جغرافيا، بل أصبح «كائنا حيا» يزداد تجذره في الأرض وفي النفوس، رغم كل الأزمات والكوارث المستمرة. اختيار الفنان لشجرة الزيتون لم يكن مصادفة؛ إنه يقدّمها بقداسة ساحرة. إنها الأيقونة الفلسطينية بامتياز، رمز السلام، والخصوبة، والاستمرارية، والمقاومة الصامتة أمام المحن.
2 ـ الأرض المحيطة : رماد وخراب
الخلفية قاتمة، مليئة بالأنقاض، الأحجار المبعثرة، وآثار الدمار التي تُذكّر بما تعرضت له هذه الأرض من تدمير منهجي. ومع ذلك، تنمو الزيتونات من بين الرماد، في تكرار للأمل. نرى هناك أكثر من شجرة بعيدة، تحاكي فكرة استمرارية الحياة، رغم الحرق والمجازر.
3 ـ الفراغ المقدّس في قلب الجذع
في قلب الجذع، نلاحظ شكلا يشبه ظل خريطة فلسطين، بلون أزرق سماوي مغاير للنسيج الخشبي، مغاير أيضا للون العلم الفلسطيني كأن الفنان يبتعد عن تحديده كتشكيل بصري، ليخلقه كأسلوب فراغ مقدّس، هوية محفورة في الزمن، تجعلنا نشعر بأن الحياة لا يمكن أن تُمحى في هذا المكان.
يؤمن براين كارلسون بأن الوطن لا يُختزل في بناء أو حدود رسمية أو ألوان علم، بل يظل ذاكرة، وجذرا، وصرخة مغروسة في الخشب. حتى الشعوب الأصلية التي تعرضت للاجتثاث ستظل خالدة.
4 ـ اللون والحدود البصرية:
يحيط باللوحة إطار أزرق يشبه النافذة أو المرآة، في تماهٍ مع عبارة الفنان، «فلسطين أصبحت مرآة للإنسانية. ماذا ترى حين تنظر إلى تلك المرآة؟». هذه الإطارات الزرقاء، التي تتكرر في عدة أعمال لبراين، تمنح المشهد أبعادا روحية، وتعزّز عنصر القداسة، الذي قد يُمنح لطفل، امرأة، شجرة، أو حتى حجر من بيت. كل ذلك يمنحنا الشعور بأننا لا ننظر إلى لوحة على قماشة، بل إلى بوابة، أو حلم، أو نبوءة.
5 ـ سؤال الفنان: ماذا نرى؟
السؤال المفتوح في تعليق براين هو قلب العمل:
«What do you see when you look in that mirror?»
السؤال لم يُطرح بلاغيا، بل أخلاقيا. اللوحة تجبرنا على النظر، إلى الشجرة، إلى أنفسنا، إلى موقفنا من الظلم، من الجذر، من العودة، من معنى الوطن في زمن النفي والاستلاب.
خاتمة
«العودة الكبرى» ليست لوحة عن الحنين، بل عن التحدي الأعمق: كيف نُبقي جذورنا حيّة في أرض تحترق وتنزف؟ كيف نعود رمزيا، وإن طُردنا واقعيا وسُلبنا حقوقنا؟
براين يرسم وطناً للذين يُطردون من أوطانهم، لأنه يؤمن بأن الوطن ليس في الخرائط، بل في الذاكرة والقلب. نجده هنا في الجذع، في الغصن، في كل من يؤمن بأن الزيتون لا يموت حتى تحت الأنقاض
.
كاتب يمني