محمد البندوري:
إن الأسلوب التشكيلي للفنان محمد الرجفي يتقصد التنوع العمراني لصنع مجموعة من العلاقات الجدلية، والأساليب التحاورية، والأدوات التحولية، وبعض الأشكال التعبيرية، والتداخلات الرمزية والعلاماتية، والاستعمالات اللونية المنسجمة، التي يسعى من خلالها إلى صنع مجال تشكيلي خصب، يقوم على أبعاد رؤيوية وثقافية وحضارية؛ يستجيب إلى البعد الجمالي في صيغه المتنوعة، يدعم به إشكالية السر الحضاري القديم، ويفصح به عن المجال التعبيري، في نطاق إبداعي معاصر. إذ يتبدى بشكل صريح ويتفاعل مع الأشكال العمرانية من جهة، ومع المسالك التشكيلية المعاصرة من جهة أخرى، وهو يدخل ضمن النسيج الثقافي للمبدع، ورصيده المعرفي، ما يسهم في توظيفه برؤى فلسفية متناسقة ومفردات فنية مترابطة، يؤكدها أسلوبه الذي يعكس بشكل جلي موسوعيته في التفكير في خصوصيات هذا المسلك الإبداعي المقيد بالجانب الحضاري وخصوصياته الجمالية والفنية والثقافية.
وهو ما يُعد ارتقاء بالعملية الإبداعية في المنظومة التشكيلية المعاصرة. إنه في الواقع النقدي انزياح عن المألوف في عالم التشكيل، وارتقاء بالتعبير وفق طقوس عمرانية ومفردات تشكيلية، تتأرجح بين القديم والجديد، لأنها تستمد كينونتها ووجودها من نبع حضاري له مقوماته الأداتية والهندسية في العمل الفني، المبني على أسس من الخبايا والحيثيات التشكيلية المستمدة من الواقع. وإن لجوء المبدع إلى هذا المنحى العمراني وفق مسلك معرفي وفلسفي بتعبير عميق، هو في الأصل لجوء إلى عالم جديد بمقومات وثوابت أصيلة، تحتوي مخزونا حضاريا كبيرا. فمن خلاله تَثبت داخل أعماله أشكالا وعوالم جديدة، تؤثث لمنحى فني تفاعلي يدحض البناءات الفراغية، وينسج مجالا تراكميا، متكاثف الألوان والطقوس والعلامات، باختيار منظم، يعتمد فيه غايات فنية مستمرة في الزمن، وهي سمة تلوح أنوارها في إبداعاته الرائقة، وفق تفاعليات وجماليات متنوعة ومختلفة، سواء على مستوى التقنيات العالية المستعملة أو على مستوى المادة اللونية بكل مضامينها ومقوماتها، أو على مستوى التطابقات الجمالية الموظفة بشكل دقيق، أو على مستوى التعابير المفاهيمية، والطقوس التقليدية التي تنبعث من الطرابيش والألبسة والأبواب التقليدية وغيرها.
وتستحوذ الألوان المنظمة بشكل دقيق على معظم الفضاء المدجج بالمعالم الإيحائية، فتصبح المساحة في أعمال المبدع لغة لونية، تنطق بالعديد من المفاهيم المختزلة في الضربات اللونية والطلاء والمسح، في تناغم يؤثر بشكل مباشر على الملمس التشكيلي، ويمنح جماليات متنوعة لقيم السطح؛ وكل ذلك يوحي بحياة اجتماعية تطبعها الحركة، وفق تركيبة جمالية تستهدف مجموعة من القيم، بروح شفافة ترصد كل مقومات الوجود العمراني بتفاصيله الدقيقة، وبذلك تتبدى لوحاته انعكاسا روحيا واجتماعيا وثقافيا وحضاريا، يختزل جملة من المعالم، فيُصور مجموعة من القيم بتقنيات عالية، تمثل أصنافا من الوجود والحياة، بانسيابية وعفوية وانطباعية على نحو من الموازنة، بين المادة التراثية الجادة، والطقوس التعبيرية الفاتنة، بشكل يمتح مقوماته من المجال الواقعي، يتجاوز الخيال، ليُرسي المادة التشكيلية في حدود الواقع الذي انبثقت منه. ولعل هذا يبرز جانبا كبيرا من التفاعل الجدلي بين المكونات التحولية للعالم الفني، ومبتغيات الحياة ولوازمها الجمالية، بتوظيف إبداعي متفرد، يعتمد تدفق اللون المعاصر وتكثيفه، وينتهي إلى أبعاد زمانية ومكانية، وفق تسخير فضائي يلامس المادة الفنية في جوهرها، في محاورة طليقة كأساس في عملية البناء. وهو ما يجعل هذه التجربة الفنية، تنبني على وجود علائقي مكثف بين مختلف الطقوس والبنايات والعلامات والألوان والشخوصات والأشكال. ولعل مجال الكشف، يتخذ من الطريقة في التوظيف، ورصد محيط الألوان، وتفكيك الطقوس، أدوات تستجلي بعضا من المكنونات، فتتبدى أعماله ناطقة بتعبيرات قيمية محسوسة، تتحرك بكل الصبغات الفنية، التي تتخذ من الألوان المختلفة أداة نسيجية، وأفقا تعبيريا وتصوريا، يفصح عن العديد من المعاني، ويقرب القارئ من المادة التشكيلية ومن الواقع الحضاري.
كاتب مغربي