المحرر:
تبقى العلاقة بين الثقافة والسياسة علاقة جدلية على الدوام، بين استغلال السياسيين للثقافة وتركيز آخرين خياراتهم على رؤى ثقافية، بين علاقة إيجابية وسلبية وتفاعل وتكامل وتحكّم، كلها تؤثر على المنتجات الثقافية. ولعل الكتب أكثر المحامل الثقافية تأثرا بالمناخ السياسي، إذ تتعرض غالبا إما للمصادرة أو للمنع أو حتى للإتلاف بحجج كثيرة، وهو ما يستمر حتى اليوم في ديمقراطية عريقة مثل أميركا.
واشنطن – على الرغم من أن الحرب الثقافية أصبحت متقدة منذ مدة في الولايات المتحدة، فإن حظر تدريس كتاب عن المحرقة النازية بحق اليهود (الهولوكوست) قد ألفت إليها أنظار العالم.
وحذف مجلس أمناء مدرسة بولاية تينيسي رواية مصورة للكاتب الأميركي آرت شبيجلمان بعنوان “ماوس” من المنهج الدراسي، متذرعا بمشاعر القلق إزاء ما تحتويه الرواية من كلمات السباب والعري.
الأدب ضحية التجاذبات

يروي شبيجلمان في روايته الفظائع التي ارتكبها النظام النازي الألماني من خلال عيون تجارب أفراد عائلته، حيث صور النازيين على أنهم القطط واليهود هم الفئران.
وفاز شبيجلمان بجائزة بوليتزر عن هذه الرواية في عام 1992، ومع ذلك فإن مجلس الأمناء رأى أنها تحتوي على عدد كبير من “المفردات اللغوية الفظة… وعبارات نابية لا ضرورة لها”.
ويعد هذا الحظر الأحدث من نوعه الذي يتصدر عناوين الأنباء، في سلسلة قرارات مجالس أمناء المدارس، المتعلقة بقضايا متنوعة ابتداء من العنصرية ووصولا إلى التربية الجنسية وجائحة كورونا.
وتحظى مجالس أمناء المدارس في الولايات المتحدة بسلطات واسعة، حيث تسيطر على الطريقة التي تدار بها المدارس في منطقة ما، فهي تضع السياسة التعليمية المحلية، وتملك صوتا فائق القوة بشأن القضايا المطروحة.
وعادة ما يقوم السكان المحليون في حي ما بانتخاب أعضاء مجلس أمناء المدرسة، ولكن يمكن أيضا أن يتم تعيين بعضهم.
وهذه الصلاحيات التي تتمتع بها المجالس لم تغب عن نظر تيار الشعبويين اليمينيين، مثل ستيف بانون الذي يقوم بشكل متزايد بحض أعضاء مجالس الأمناء على ترويج معتقدات هذا التيار.
ودعا بانون أتباعه إلى “استرداد” مجالس أمناء المدارس، وذلك في مقطع فيديو بعنوان “غرفة الحرب” بثه في مايو 2021، وطالب بـ”ثورة شعبية”، كما دعا الآباء إلى القيام بعمل ما.
وأصبح المناخ السائد في اجتماعات مجالس أمناء المدارس متوترا، خاصة منذ العام الماضي، حيث تفشت موجات الصياح والاعتداءات البدنية، بل وصل الأمر إلى حد التهديد بالقتل، وذلك وفقا للأنباء التي ترددت، ولكن يبقى السؤال: لماذا يحدث ذلك الآن؟
الجواب هو أن الهجوم الذي تعرض له مقر الكونغرس في السادس من يناير 2021 يعد نقطة تحول وفقا لما يقوله كينيث وونج، أستاذ العلوم السياسية بجامعة براون المرموقة، في مدينة بروفيدنس بولاية رود أيلاند.
ويضيف وونج الذي يركز على السياسة التعليمية أن هذه الحملة تفتح الباب أمام أولئك الذين يهدفون إلى الإخلال بمؤسسات الدولة أو زعزعة استقرارها لتنفيذ مجموعة واسعة من الأعمال.
ويقول أيضا إن الناس اعتادوا الاختلاف حول القضايا، وهو ما يمثل أمرا طبيعيا تماما، غير أن المجتمع الأميركي أصبح أكثر عرضة للاستقطاب منذ الهجوم على مقر الكونغرس، كما بدأ المناخ يتغير في مجالس أمناء المدارس، حيث تلاشت الحدود الفاصلة بين ما يعد سلوكا مقبولا أو غير ذلك.
وأعرب وونج عن اعتقاده بأن مجالس أمناء المدارس تقوم بشكل متعمد بتنظيم هذا التطور، مشيرا إلى أنه أصبح يشبه حركة ممتدة على مستوى البلاد.
ووصل الوضع إلى ما يتجاوز مشاعر القلق التي يعبر عنها الآباء، ليصير شبكة يتم من خلالها تبادل الأفكار.
ويتمثل الهدف في زعزعة استقرار المؤسسات الديمقراطية والطريقة التي تعمل بها، على حد قول وونج الذي يشير إلى التهديدات وحالات الاعتداء.
ومن ناحية أخرى أعرب المؤلف شبيجلمان في مقابلة تلفزيونية عن شعوره بحالة “من الذهول الكامل”، عندما سمع قرار مجلس أمناء المدرسة، ووصف هذه الخطوة بأنها “قصيرة النظر”، وقال إنها توحي “بالاستبداد والفاشية”.
ورد مجلس الأمناء بالقول إن “الكتاب موجه إلى الراشدين”.
الكتب الهدف الأول
وقعت الكتب بشكل متزايد في مصيدة تبادل إطلاق النار، ضمن هذا المناخ المشبع بالمواجهات السياسية، وكانت هناك أيضا محاولات متكررة لحظر رواية “العين الزرقاء” الصادرة عام 1970، للمؤلفة الأميركية توني موريسون الحاصلة على جائزة نوبل للآداب. وتحكي الرواية قصة طفلة أميركية من أصل أفريقي تبلغ من العمر 11 عاما، ونضال أفراد أسرتها وسط ثقافة طاغية وغير مواتية.
وفي وقت لاحق تعرّض أيضا كتاب “ليس جميع الأطفال لونهم أزرق” -من تأليف الكاتب الأميركي جورج ماثيو جونسون- لموجة من الجدل. وهذا الكتاب الذي يضم مجموعة من المقالات على غرار السيرة الذاتية، موجه إلى الشباب المثليين السود الذين لا يجدون هويتهم في المعايير المجتمعية المتعلقة بالنوع الاجتماعي والمسائل الجنسية.
حظر تدريس رواية “ماوس” بحجة أنها تحتوي على عدد كبير من المفردات اللغوية الفظة والعبارات النابية التي لا ضرورة لها
وصارت قضايا العنصرية والتربية الجنسية -بما في ذلك وسائل منع الحمل، وأيضا الممارسات الجنسية التي تتعدى تلك السائدة بين الجنسين- تثير استياء الآباء، وتقوم بعض مجالس الأمناء بحظر تدريس “النظرية النقدية للعنصرية”، وهي نظرية تنتقد المفهوم السائد عن العنصرية في الولايات المتحدة، كما تنتقد تبني النظام القانوني والسياسي الأميركي للفوارق العنصرية بين المواطنين، وتسعى لفضح هذا النظام. ويأتي هذا الحظر بدافع من التيار المحافظ والجمهوريين، حيث يرى هذا التيار أن هذه النظرية تسهم في تقسيم المجتمع إلى مضطهدين وظالمين.
ويدور الجدل أيضا بين أعضاء مجالس الأمناء حول إجراءات التباعد الاجتماعي الاحترازية بسبب جائحة كورونا، والمطالبة بارتداء الكمامات والحصول على اللقاحات، مع تزايد مستويات العنف الرافض لهذه التدابير، بينما انضم الآباء إلى الاحتجاجات الرافضة للقرارات التي تلزم بارتداء الكمامات في جميع أنحاء الولايات المتحدة.
ومن ناحية أخرى نشرت منظمة “مواطنون من أجل تجديد أميركا”، ذات الاتجاه المحافظ، كتيبا لمساعدة المواطنين على تدشين حملات تؤدي إلى انتخابهم أعضاء في مجالس الأمناء، واكتسبت هذه المنظمة وغيرها من المنظمات المشابهة قوة دفع مؤخرا.
ويعلق وونج على هذه المنظمات بقوله “من المتعذر تجنب خوض المجموعات ذات المصالح في هذه العملية، ذلك أن المدارس تعد أماكن طبيعية لإجراء المناقشات المجتمعية”، ويضيف أنه “ليس من الأمور الجديدة ظهور حملات ضد العنصرية، وحملات من جهات أخرى تهدف إلى حماية مصالحها”.
ويوضح وونج أن الأمر الذي تغير هو كيفية تصرف الأميركيين بشكل أكثر حدة، وذلك منذ وقوع الهجوم على مقر الكونغرس.